قصـة يونــس ( عليه الســلام )

سيدنا يونس عليه السلام هو ابن ( متى ) و كان قبل بعثته رجلاً صالحاً يتعبد فى جبل فى قرية من قرى الموصل يقال لها ( نينو ) ,وكان قومه يعبدون الاصنام , فبعثة الله تعالى إليهم لينهاهم عن المنكر , و يأمرهم بالمعروف , و يصدهم عن الكفر , ويرغبهم فى توحيد الله .
قال الإمام على كرم الله وجهه: بعث الله يونس بن متى إلى قومه و هو ابن ثلاثين سنة , فأقام فيهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثاً وثلاثين سنة فلم يؤمن به إلا رجلان أحدهما ( روبيل ) و كان عالماً حكيماً و الآخر ( تنوخ ) و كان عابداً زاهداً .
و قال ابن عباس و ابن مسعود رضى الله عنهما : لما يئس يونس من إيمان قومه دعا عليهم فأوحى الله اليه , مأسرع ما دعوت على قومك , ارجع اليهم فادعهم أربعين ليلة أخرى , فإن أجابوك وإلا فإنى مرسل عليهم العذاب , فرجع و دعاهم سبعاً و ثلاثين ليلة فلم يجيبوه , فقام فيهم خطيباً و قال : إنى محذركم العذاب إلى ثلاثة أيام إن لم تؤمنوا , فخافوا و قالوا : إنا لم نجرب عليه كذباً .
فلما كانت ليلة الأربعين خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم , و لما اصبحوا تغشاهم العذاب , فظهرت سحب سوداء فى السماء , و ثار دخان كثيف , و هبطت السحب بدخانها حتى غشيت مدينتهم , و أيقنوا بالهلاك و العذاب , فطلبوا نبيهم يونس فلم يجدوه , فقذف الله في قلوبهم التوبة , و ألهمهم الرجوع اليه عز و جل , فخرجوا الى العراء ( الخلاء ) بأنفسهم و نسائهم وابنائهم و دوابهم , و أظهروا الإيمان و التوبة لله تعالى , و أخلصوا له النية , و علت أصواتهم بالدعاء , و ضجوا بالبكاء , و تضرعوا إلى الله تعالى , و قالوا : آمنا بما جاء به يونس , فرحمهم ربهم و استجاب دعوتهم و قبل توبتهم و كشف عنهم العذاب بعد ما أضلهم .
و قد مدحهم الله و قال فيهم : انهم كانوا مثلاً حسناً , لأنهم صدقوا النية , و تابوا توبةً نصوحاً , و آمنوا قبل نزول العذاب , فحوله الله عنهم , و كشف عنهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا , و متعهم الله بالنعم و الخيرات إلى حين من الدهر .
( فَلَوْلا كاَنَتْ قَرْيَة ءَامنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُهاَ إلاّ قَوْمَ يُوُنُس لَمّا ءَامَنُواكَشَفْناَ عَنْهُمْ عَذاَبَ الْخزْي في الْحَيَاة الدٌنْيَا وَمَتّعْنَاهُمْ إلَي حين ) يونس .
فلما رجعوا إلى الذنوب , وعادوا إلى السيئات , و نقضوا التوبة , رفع الله عنهم الخير وأنزل بهم القحط و المقت .
و لما خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم , مكث ينتظر نزول العذاب بهم فلم ينزل , و لم يعلم أنهم قد تابوا , وتاب الله عليهم , فخشى أن يرجع إليهم لئلا يقتلوه , فإن من عادتهم قتل من كذب , و لم تكن له بينة , و قد أوعدهم و حذرهم العذاب و لم يقع , فظن أنهم قد يرمونه بالكذب و يقتلونه , وانطلق ملتجئاً إلى ربه , مغاضباً قومه الذين يئس من إيمانهم حتى أتى ( بحر الروم ) .
و لما أتى البحر وجد قوماً يركبون سفينتةً فركب معهم و دفع الأجر فأصاب السفينة ريح كادت تغرقها , فقال الملاحون : إن فيها عبداً آبقاً ( لأن من عادة السفينة إذا ركب فيها آبق لا تسير حتى يخرج منه ) فاقترعوا و قالوا : من تخرج القرعة عليه فهو الآبق ( الهارب ) .
و لما اقترعوا و قعت القرعة على يونس عليه السلام فقال : انا الآبق , فلم يقبلوا منه , و قالوا : كيف ذلك؟ إنا نرجو بك الخير و النجاة .
و اقترعوا ثانية و ثالثة و القرعة تخرج على يونس عليه السلام , فذج نفسه فى الماء فابتلعه الحوت و لم يقتله ! بل بقى حياً فى بطنه , و هو عليه السلام قد لام نفسه من عدم الصبر حتى يأمره الله بالهجرة أو غيرها . و قد مكث عليه السلام فى بطن الحوت ثلاثة ايام حتى أدركه الغم و اصابه الهم , و نزل به المرض , فنادى ربه فى الظلمات : ظلمة بطن الحوت , و ضلمة البحر , و ضلمة اليل قائلاً :
(لاَ إلهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ منَ الظّالمينَ )لأنفسهم بترك الصبر حتي توحي اليّ بما أتبعه , وأقوم علي تنفيذه .
فأجاب الله دعاءه ونجاه من الغم الذي كان فيه , وكذلك ينجي الله لموْمنين به , وفي ذلك قوله تعالي : ( وَذا النُّون ( أي صاحب الحوت ) إذ ذهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لَّنْ نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَي فيِ الظُّلُمُاَتِ أنْ لاَ إِله إلاأَنْتَ سَبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجِّيْنَاهُ مِنَ الغْمِّ وَ كَذَلِكَ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِيِنَ ) الأنبياء .
فلما استجاب له ربه أوحي إلي الحوت فقذفه علي جانب نهر (الدجلة ) ولولا أنه كان عليه السلام من المسبحين الذين يذكرون الله لبقي في بطن الحوت حيَّا أو ميتاً ألى يوم القيامة , ولكن الله جلت قدرته, و نفذت إرادته , جعل الحوت يقذفه إلى وجه الأرض الخالية على جانب نهر ( الدخلة ) و هو سقيم , خائرالقوى , نحيف الجسم مما حصل له , وأنبت عليه شجرة من ( اليقطين ) ليستظل بها رحمةً من الله به . و قال اغلب المفسرين هى ( شجرة القرع )فكان لا يتناول منها ورقة إلا أروته لبناً , و فى ذلك قوله تعالى :
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ . إذْ أَبَقَ إلَي الْفُلكِ الْمَشْحُونِ . فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضيِنَ . فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم . فَلَوْلاَ أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسبَِّحِينَ . لَلَبِثَ فيِ بَطْنِهِ إلَي يَوْمِ يُبعْثُونَ . فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَسَقِيم . وَأنْبَتنْاَ عَلَيْهِ شَجَرَة مِنْ يَقْطِين ) الصافات .
وجاء في كتاب الفقه : أن سيدنا يونس عليه السلام حين أخرجه الله من بطن الحوت , وقت غياب الشفق وظهور النجوم , صلي أربع ركعات شكراً لله لنجاته , ( فهو أول من صلي صلاة العشاء) .
ثم أمره الله تعالي أن يأتي قومه , فصدع بأمر ربه , فلقي راعياً فسأله عن قوم يونس , وعن حالهم وكيف هم؟ فأخبره أنهم بخير , وأنهم يرجون أن يرجع إليهم رسولهم , فقال له : أنا يونس . فذهب فرحاً وأخبر قومه فأسرعوا إليه , وانكبوا علي رجليه يقبلونها , ودخل معهم (نينوي ) فوجدهم قد تابوا وأنابوا , وكانوا يتمنون رجوعه , ففرحوا به فرحاً شديداً فمكث فيهم , وكانوا مئة ألف فأكثر , فآمنوا بيونس عليه السلام . وبما جاء به , واتبعوه في كل ماأمرهم به ونهاهم عنه , وهذا إيمان جديد غير إيمانهم حين رأوا العذاب , فمتعهم الله بالنعيم والخيرات إلي أجلهم المسمي فيمن ماتوا علي الإيمان , أو إلي أن عصوا ربهم وخالفوا نبيهم فيمن جحدوا وأنكروا . ( وَأرْسَلْنَاهُ إلَي مِائَةِ ألْفِ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُوا فَمتَعَّنْاهُم إلَي حِينِ ) الصافات .
وفي هذا أشارة إلي أن من يؤمن بالله حق الايمان ويتقه ويتبع رسله ويصدع بأوامرهم يمتعه الله في الحياة الدنيا متاعاً حسناً ويرزقه من حيث لا يحتسب ويفوز برضا ربه وحسن لقائه في الدار الآخرة .